فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن أبي جريج في قوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا} قال: الكافر والمنافق: {أولئك يعرضون على ربهم} فيسألهم عن أعمالهم: {ويقول الأشهاد} الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} حفظوه شهدوا به عليهم يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه: {يقول الأشهاد} قال: الملائكة.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه قال: {الأشهاد} الملائكة يشهدون على بني آدم بأعمالهم.
وأخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر رضي الله عنهما «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يدني المؤمن حتى يضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه، ويقول له: اتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: أي رب أعرف. حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون: {ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}».
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ من وجه آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي الله بالمؤمن يوم القيامة فيقربه منه حتى يجعله في حجابه من جميع الخلق، فيقول له: اقرأه. فيعرفه ذنبًا ذنبًا فيقول: أتعرف أتعرف؟ فيقول: نعم، نعم. فيلتفت العبد يمنة ويسرة فيقول له الرب: لا بأس عليك يا عبدي أنت كنت في ستري من جميع خلقي وليس بيني وبينك اليوم من يطلع على ذنوبك، اذهب فقد غفرتها لك بحرف واحد من جميع ما أتيتني به. فيقول: يا رب ما هو؟ قال: كنت لا ترجو العفو من أحد غيري فهانت علي ذنوبك، وأما الكافر فيقرأ ذنوبه على رؤوس الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}».
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن قتادة رضي الله عنه قال: كنا نحدث أنه لا يخزى يومئذ أحد، فيخفي خزيه على أحد من الخلائق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم رضي الله عنه قال: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن فقال: «إن الله كره الظلم ونهى عنه، وقال: {ألا لعنة الله على الظالمين}».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران رضي الله عنه قال: إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته، فيقول: {ألا لعنة الله على الظالمين} وأنه لظالم.
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)} أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه في قوله: {الذين يصدون عن سبيل الله} هو محمد صلى الله عليه وسلم، صدت قريش عنه الناس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك رضي الله عنه في قوله: {ويبغونها عوجًا} يعني يرجون بمكة غير الإِسلام دينًا.
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)} أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنه قال: ما كانوا يستطيعون السمع وفي طاعته وما كانوا يبصرون، وأما في الآخرة فإنه قال: لا يستطيعون خاشعة.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيرًا فينتفعوا به ولا يبصروا خيرًا فيأخذوا به.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)} أخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه: {أولئك الذين خسروا أنفسهم} قال: غبنوا أنفسهم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} والأَشْهاد جمعُ شاهد كصاحب وأَصْحاب، أو جمعُ شهيد كشريف وأشراف. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
وقوله تعالى: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ} {هم} الثانية توكيدٌ للأولى توكيدًا لفظيًا.
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)} قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ}: يجوز في {ما} هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن تكونَ نافيةً، نفى عنهم ذلك لمَّا لم ينتفعوا به، وإن كانوا ذوي أسماع وأبصار، أو يكونُ متعلَّقُ السمعِ والبصرِ شيئًا خاصًا. والثاني: أن تكون مصدريةً، وفيها حينئذٍ تأويلان، أحدهما: أنها قائمة مقامَ الظرف، أي: مدةَ استطاعتهم، وتكون {ما} منصوبةً ب {يُضاعف}، أي: يضاعف لهم العذاب مدةَ استطاعتهم السمعَ والأبصار. والتأويل الثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ على إسقاط حرف الجر، كما يُحذف من أنْ وأنَّ أختيها، وإليه ذهب الفراء، وذلك الجارُّ متعلقٌ أيضًا ب {يُضاعَف}، أي: يضاعف لهم بكونهم كانوا يسمعون ويبصرون ولا يَنْتفعون. الثالث: أن تكون {ما} بمعنى الذي، وتكونَ على حذف حرف الجر أيضًا، أي: بالذي كانوا، وفيه بُعْدٌ لأنَّ حَذْفَ الحرفِ لا يَطَّرد.
والجملةُ من قوله: {يُضاعف} مستأنفة. وقيل: إنَّ الضمير في قوله: {ما كانوا} يعودُ على {أولياء} وهم آلهتُهم، أي: فما كان لهم في الحقيقة {مِنْ أولياء}، وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياءُ، فعلى هذا يكون: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} معترضًا.
{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)} قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ}: في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين، ويتلخص ذلك في خمسة أوجه، أحدها: وهو مذهب الخليلِ وسيبويه وجماهير الناس أنهما رُكِّبَتَا من {لا} النافيةِ و{جَرَم}، وبُنِيَتَا على تركيبهما تركيبَ خمسةَ عشرَ، وصار معناهما معنى فِعْلٍ وهو حقَّ، فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعلية، فقوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62]، أي حَقَّ وثَبَتَ كونُ النار لهم، أو استقرارها لهم. الوجه الثاني: أنَّ {لا جَرَمَ} بمنزلة لا رجل، في كون {لا} نافيةً للجنس، و{جَرَم} اسمُها مبنيٌّ معها على الفتح وهي واسمُها في محلِّ رفعٍ بالابتداء وما بعدهما خبرُ {لا} النافية، وصار معناها: لا محالة ولابُدَّ.
الثالث: كالذي قبله إلا أن {أنَّ} وما بعدها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف الجار، إذ التقدير: لا محالةَ في أنهم في الآخرة، أي: في خسرانهم. الرابع: أن {لا} نافيةٌ لكلامٍ متقدمٍ تكلَّم به الكفرة، فردَّ اللَّه عليهم ذلك بقولِه: {لا}، كما تَرُدُّ {لا} هذه قبل القسم في قوله: {لاَ أُقْسِمُ} [القيامة: 1]، وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] وقد تقدَّم تحقيقه، ثم أتى بعدها بجملةٍ فعليةٍ وهي جرم أنَّ لهم كذا. وجَرَمَ فعلٌ ماضٍ معناه كسب، وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلولِ عليه بسياقِ الكلام، و{أنَّ} وما في حيِّزها في موضع المفعول به لأنَّ {جَرَم} يتعدى إذ هو بمعنى كَسَبَ. قال الشاعر:
نَصَبْنا رأسَه في جِذْعِ نَخْلٍ ** بما جَرَمَتْ يداه وما اعتدَيْنا

أي: بما كسبَتْ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة. وجريمةُ القومِ كاسبُهم، قال:
جريمةُ ناهِضٍ في رأسِ نِيْقٍ ** ترى لعظامِ ما جَمَعَتْ صَليبا

فتقديرُ الآية: كَسَبَهم فِعْلُهم أو قولُهم خسرانَهم، وهذا هو قولُ أبي إسحاق الزجاج، وعلى هذا فالوقف على قوله: {لا} ثم يُبتدأ ب {جَرَمَ} بخلاف ما تقدَّم.
الوجه الخامس: أنَّ معناها لا صَدَّ ولا مَنْعَ، وتكون {جَرَمَ} بمعنى القطع، تقول: جَرَمْتُ، أي: قطعت، فيكون {جرم} اسمَ {لا} مبنيٌّ معها على الفتح كما تقدم، وخبرها {أنَّ} وما في حيِّزها، أو على حَذْف حرف الجر، أي: لا منع من خسرانهم، فيعود فيه الخلافُ المشهور.
وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ: يُقال لا جِرَمَ بكسر الجيم، ولا جُرَم بضمِّها، ولا جَرَ بحذف الميم، ولا ذا جَرَم، ولا إنَّ ذا جَرَم، ولا ذو جَرَم، ولا عن ذا جَرَم، ولا إنْ جَرَم، ولا عن جَرَم، ولا ذا جَرَ واللَّهِ لا أفعل ذلك.
وعن أبي عمروٍ: {لا جَرُم أنَّ لهم النار} على وزن لا كَرُم، يعني بضم الراء، ولا جَرَ، قال: حَذَفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا: سَوْ ترى يريدون: سوف. وقوله: {هُمُ الأخسرون} يجوز أن يكون {هم} فَصْلًا وأن يكونَ توكيدًا، وأن يكونَ مبتدأً وما بعده خبره، والجملة خبر إن. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ} (هود: 22)، وفي سورة النحل: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ} (النحل: 109)، للسائل أن يسأل عن وجه تخصيص آية هود بقوله: {الأَخْسَرُونَ} وآية النحل بقوله: {الْخَاسِرُونَ}؟ (وهل كان يمكن العكس)؟
والجواب: أن آية هود تقدمها (ما يفهم) المفاضلة، ألا ترى أن قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} (هود: 17)، الآية يفهم من سياقها أن المراد: أفمن كان على بينة من ربه كمن كفر وجحد {وكذب} الرسل؟ ثم أتبع هذا بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (هود: 18)، فهذا صريح مفاضلة، ثم أستمرت الآي في وصف من ذكر وعرضهم على ربهم وقول الأشهاد: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (هود: 19، 18) إلى ذكر مضاعفة العذاب لهم، وأستمر ذكرهم إلى قوله: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ} (هود: 22)، فناسب لفظ الأخسرين بصيغة التفاضل، ومقصود التفاوت ما تقدم مما يفهم ذلك من قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} (هود: 17)، وأفعل من كذا في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى} (هود: 18)، فالأيات من لدن قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} إلى قوله: {هُمْ الأَخْسَرُونَ} مبنيات على ما ذكرناه غير خارجة عن هذا المقصود، ولو ورد هنا {الخاسرون} مكان {الأخسرين} لتنافى النظم وتباين السياق ولم يتناسب.
وأما آية (النحل) فلم يقع قبلها أفعل التي للمفاضلة والتفاوت ولا ما يفهمهما، وإنما قبلها: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ} (النحل: 105، 104)، وبعد هذا {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (النحل: 107)، وبعد هذا {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ}، فتأمل هذذه الفواصل واتفاقها في اسم الفاعل المجموع جمع السلامة في قوم متفقي الأحوال في كفرهم إلى أن ختم وصفهم وما قصد من ذكرهم بقوله: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ}، فتناسبت الآي في السياق والفواصل، وختمت بمصل ما به بدأت، ولم يكن ليناسب ما ورد هنا لفظ المفاضلة، إذ ليس في الكلام ما يستدعي ذلك لا من لفظه ولا معناه، ووضح إختصاص كل من العبارتين بمكانة، وإن العكس لا يلائم، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.
مَنْ ادَّعى على الله حالًا لم يكن متحققًا بها فقد افترى على الله كذبًا، واستوجب المقت، وعقوبته ألاَّ يُرْزَق بركةً في أحواله، ثم إنه يكشف للشهداء عيوبَه، يفضحه بين الخْلق، والشهداءُ قلوبُ الأولياء، ومَنْ شهدت القلوبُ عليه بالردِّ فهو غيرُ مقبولٍ عند الحقِّ.
قوله جلّ ذكره: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.
هذا من جملة صفات المفترين على الله الكذب، ومِنْ صدِّهم عن السبيل أن يُظهِروا من أنفسهم أحوالًا تُخِلُّ بأحكام الشريعة، ولا يَرَوْن ذلك كبيرةً في الطريقة، ويُوهمون المُسْتَضْعفين من أهل الاعتراض عليهم أنَّ لهم في ذلك رخصة، فَيضِلُّون وُيُضِلُّون. ومن جملة صدَّهم عن السبيل تغريرهم بالناس، وإيقاعهم في الغَلَطِ، ويرتقون بشيءٍ مما في أيديهم من حطام الدنيا، ولا يَسْتَحُون منْ أَخْذِ شيءٍ لا يستوجبونه بأي وجه حقِّ، ويُدَاهِنُون في دين الله.
قوله جلّ ذكره: {أوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ...} الآية.
مَنْ هذه صفتهم لا يربحون في تجارتهم، ولا يلحقون غايةً طلبوها؛ فيبقون عن الحق، ولا يبارك لهم فيما اعتاضوا من صحبة الخْلق. خَسِرتْ صفْقتُهُمْ، وبَارَتْ بضاعتُهم، لَقُوا الهوان، وذاقوا اليأس والحرمان.
{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)} لا محالةَ أنهم في الآخرة أشدُّ خسرانًا، وأوفر- من الخيرات- نقصانًا. اهـ.

.تفسير الآيات (23- 24):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما توعد الكافرين وأخبر عن مآلهم بسببه، كان موضع أن يسأل عن حال المؤمنين فقال: {إن الذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة: {وعملوا الصالحات} ولما كان الحاصل ما مضى من وصف الكافرين بعد مطلق الأعمال السيئة الإعراض عن ربهم والنفرة عن المحسن إليهم جلافة وغلظة، وصف المؤمنين بالإقبال عليه والطمأنينة إليه فقال: {وأخبتوا} أي خشعوا متوجهين منقطعين: {إلى ربهم} أي المحسن إليهم فشكروه فوفقهم لاستطاعة السمع والأبصار.
ولما ذكر وصفهم ذكر جزاءهم عليه بقوله: {أولئك} أي العالو الرتبة: {أصحاب الجنة} ولما كانوا مختصين بها أول أو بالخلود من أول الأمر، أعاد الضمير فقال: {هم فيها} أي خاصة لا في غيرها: {خالدون}.
ولما استوفى أوصاف الحزبين وجزاءهم، ضرب للكل مثلًا بقوله: {مثل الفريقين} أي الكافرين والمؤمنين، وهو من باب اللف والنشر المرتب، فإن الكافر ذكر فيما قبل أولًا: {كالأعمى} أي العام العمى في بصره وبصيرته: {والأصم} في سمعه كذلك، فهذا للكافرين: {والبصير} بعينه وقلبه: {والسميع} على أتم أحوالهما، وهذا للمؤمنين، وفي أفراد المثل طباق أيضًا: {هل يستويان} أي الفريقان: {مثلًا} أي من جهة المثل.
ولما كان الجواب قطعًا لمن له أدنى تأمل: لا يستويان مثلًا فلا يستويان ممثولًا، حسن تسبب الإنكار عنه في قوله: {أفلا تذكرون} أي يحصل لكم أدنى تذكر بما أشار إليه الإدغام فتعلموا صدق ما وصفوا به بما ترونه من أحوالهم، وذلك ما قدم في حق الكفار من قوله: {ما كانوا يستطيعون السمع} الآية؛ والإخبات: الخشوع المستمر على استواء فيه، وأصله الاستواء من الخبت، وهو الأرص المستوية الواسعة، ولعله وصله بإلى في موضع اللام إشارة إلى الإخلاص أي إخباتًا ينتهي إلى ربهم من غير أن يحجب عنه؛ والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بحال الأول، والأمثال لا تغير عن صورتها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم، أتبعه بذكر أحوال المؤمنين، والإخبات هو الخشوع والخضوع وهو مأخوذ من الخبت وهو الأرض المطمئنة وخبت ذكره أي خفي، فقوله: أخبت أي دخل في الخبت، كما يقال فيمن صار إلى نجد أنجد وإلى تهامة أتهم، ومنه المخبت من الناس الذي أخبت إلى ربه أي اطمأن إليه، ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام، فإذا قلنا: أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه، وإذا قلنا أخبت له فمعناه خشع له.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة، وقوله: {وَأَخْبَتُواْ} إشارة إلى أن هذه الأعمال لا تنفع في الآخرة إلا مع الأحوال القلبية ثم إن فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان المراد أنهم يعبدون الله وكانت قلوبهم عند أداء العبادات مطمئنة بذكر الله فارغة عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى أو يقال إنما قلوبهم صارت مطمئنة إلى صدق الله بكل ما وعدهم من الثواب والعقاب، وأما إن فسرنا الإخبات بالخشوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفين وجلين من أن يكونوا أتوا بها مع وجود الإخلال والتقصير، ثم بين أن من حصل له هذه الصفات الثلاثة فهم أصحاب الجنة، ويحصل لهم الخلود في الجنة.
{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}
واعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين ذكر فيهما مثالًا مطابقًا ثم اختلفوا فقيل: إنه راجع إلى من ذكر آخرًا من المؤمنين والكافرين من قبل، وقال آخرون: بل رجع إلى قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} [هود: 17] ثم ذكر من بعده الكافرين ووصفهم بأنهم لا يستطيعون السمع ولا يبصرون، والسميع والبصير هم الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم.
واعلم أن وجه التشبيه هو أنه سبحانه خلق الإنسان مركبًا من الجسد ومن النفس، وكما أن للجسد بصرًا وسمعًا فكذلك حصل لجوهر الروح سمع وبصر، وكما أن الجسد إذا كان أعمى أصم بقي متحيرًا لا يهتدي إلى شيء من المصالح، بل يكون كالتائه في حضيض الظلمات لا يبصر نورًا يهتدي به ولا يسمع صوتًا، فكذلك الجاهل الضال المضل، يكون أعمى وأصم القلب، فيبقى في ظلمات الضلالات حائرًا تائهًا.
ثم قال تعالى: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} منبهًا على أنه يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصمم، وإذا كان العلاج ممكنًا من الضرر الحاصل بسبب حصول هذا العمى وهذا الصمم وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان.
واعلم أنه قد جرت العادة بأنه تعالى إذا ورد على الكافر أنواع الدلائل أتبعها بالقصص، ليصير ذكرها مؤكدًا لتلك الدلائل على ما قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة، وفي هذه السورة ذكر أنواعًا من القصص. اهـ.